رؤية الخــبراء لـدور صنـاعـة الإعــلام في تعـزيز نمـوذج اقتـصــاديات المـعــرفة في المجتمعــات العــربية واتجــاهاتهــم نحــوها کأحد مصادر القوة الناعمة في هذه المجتمعات

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ بقسم الصحافة بکلية الإعلام- جامعة القاهرة

المستخلص

لا شک أن صناعة الإعلام – بما تمتلکه من استثمارات ضخمة، وبما يتوافر لها من تکنولوجيا وتقنيات الإنتاج المتطورة، وکذلک بما لديها من بنى تحتية ومؤسسية هائلة، ومن عناصر بشرية تتمتع بمهارات وقدرات وسمات إبداعية خاصة – وبما تحققه من عائدات وأرباح، وکذلک بما تستوعبه من أعداد للعاملين في قطاعاتها ومجالاتها المختلفة، والأهم بما تمارسه من وظائف وأدوار واسعة التأثير – تمثل إحدى أهم الصناعات المؤثرة والفاعلة في حرکة المجتمعات وتطورها ونهضتها، وفي دعم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بها، خاصة تلک المجتمعات التي تدرک جوهر هذه الصناعة، وخصوصيتها، وأهميتها على المستويات المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولا شک أن صناعة الإعلام في العالم العربي بمختلف أقطاره – کانت ولا تزال – تمثل أحد أهم محرکات القوة الدافعة لهذه المجتمعات، سواء کان ذلک إبان مراحل الاستقلال الوطني، والسعي للتخلص من هيمنة القوى الاستعمارية، أو في مرحلة ما بعد الإستقلال، ودورها البارز في مساندة برامج التنمية الوطنية، وفي دعم جهود الشعوب والحکومات، في محاولة النهوض وتحقيق متطلبات التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي. قد نتفق أو نختلف حول طبيعة الأدوار والوظائف التي مارستها وسائل الإعلام خلال الحقب الزمنية المختلفة، وحدود تأثيرها، ولمصلحة من کانت تعمل، ولمن تخضع توجهات سياساتها الإعلامية، ومن يديرها ويسيطر عليها، ومدى قدرتها على التعبير عن هموم الجماهير ومشاکلها في مواجهة السلطة السياسية، وقد نتفق أو نختلف على ما آلت إليه أوضاعها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلا أن الأمر الثابت والحقيقة التي لا مفر من التسليم بها أن هذه الوسائل، والصناعة التي تعمل في إطارها تظل تمثل واحدة من أهم الصناعات التي تتمتع بحضور قوي ومؤثر في المجتمع، أيا کان اتجاه التأثير، ولمصلحة من، کما أنها تمثل بلا شک إحدى أهم أدوات القوة الناعمة للمجتمعات المختلفة، ومن بينها المجتمعات العربية، إذ کانت صناعة الإعلام في العالم العربى، في مختلف المراحل التاريخية، تمثل أحد أهم أدوات الدول في التعبير عن سياساتها الخارجية، وفي إدارة صراعاتها وأزماتها على المستويين الإقليمي والعالمي، کما أنها کانت ولا تزال تمثل أحد أهم الأدوات والوسائل التي تستخدمها الدول والشعوب في تسويق تراثها الثقافي ومنجزها الحضاري، واحد أهم الوسائل أيضا في تعزيز حضورها ونفوذها وتأثيرها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وکذلک في مد جسور الثقة والتفاهم والتعاون بينها وبين الدول والشعوب الأخرى.
ولاشک أن اقتصاديات صناعة الإعلام في العالم العربي"من يملک ؟ من يدير ؟ من يمول، ومن يحدد السياسات والتوجهات ؟" قد تأثرت بطبيعة التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية، وأثرت فيها بدرجات متباينة، بل إنها قد تأثرت أيضا في الجانب الآخر بتلک التحولات التي شهدها النظام الاقتصادي العالمي، وزيادة التوجه نحو عولمة الاقتصاد، وعولمة ملکية وسائل الإعلام، وعولمة الأسواق التي تعمل في إطارها، ولاشک أيضا أن هذه الصناعة قد استطاعت أن تخلق لنفسها مساحة لا بأس بها في سوق الاقتصاد الوطني والعالمي، من خلال تدفق الاستثمارات إلى هذا القطاع، ودخول أنماط جديدة من الملاک وحملة الأسهم وأصحاب رؤوس الأموال إلى سوق هذه الصناعة، وکذلک من خلال تبني إدارات الکثير من المؤسسات الإعلامية في العالم العربي لاستراتيجيات السوق، والعمل وفق قوانينه ومتطلباته، حتى أصبحت هذه الصناعة واحدة من أهم روافد النظام الاقتصادي الجديد، بل ومن أوائل الصناعات التي استطاعت أن تستوعب التطورات والتحديات التي أفرزتها الثورة التکنولوجية الراهنة "ثورتي الاتصالات وتکنولوجيا المعلومات" التي شهدها العالم منذ منتصف التسيعنيات، فبدأت صناعة الإعلام في کثير من الدول العربية تعيد النظر في طبيعة أساليب إنتاجها، ونظم تشغيلها، وفي أساليبها الإدارية والتنظيمية، بل وفي مداخلها ونماذجها الاقتصادية والسوقية، فبدأت هذه الصناعة تشهد تطورا بدرجات متباينة، فتغيرت هياکلها التقليدية القديمة، وتطورت وظائفها وأدوارها، وأصبحت هذه الصناعة بفضل هذه التحولات الاقتصادية العالمية، وبفضل التطورات الهائلة التي شهدتها تکنولوجيا الاتصال والمعلومات، تمثل أحد أهم عناصر الاقتصاد الرقمي الجديد ن وأحد روافد اقتصاديات صناعة المعرفة في العالم، من خلال زيادة توجه القائمين على شئون هذه الصناعة نحو رقمنة الخدمات الإعلامية التي تقدمها، وتبني صيغ التحول الإعلامي والإندماج، والتحول إلى نمط المؤسسات متعددة المنصات، لضمان القدرة على المنافسة والبقاء في السوق، وضمان جذب المزيد من المستثمرين، ومن الممولين والمعلنين، والإستفادة من نتاج هذه الثورة التکنولوجية وتطبيقاتها، في تبني نموذج تعددية الخدمات، بالمزواجة بين الخدمات الإعلامية والخدمات ذات الطابع التجاري، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز مکانة هذه الصناعة وتزايد نفوذها وتأثيرها.
والحقيقة أن صناعة الإعلام في العالم العربي – رغم ما شهدته من تطورات – إلا أنها أصبحت خلال السنوات الأخيرة محل انتقادات کثير من الباحثين والنقاد، ومن جماهير وسائل الإعلام أنفسهم، نتيجة لمجموعة کبيرة من العوامل أهمها: غلبة الطابع والنزعة التجارية على مضمون هذه الوسائل وسياساتها، على حساب منظومة القيم المهنية واعتبارات المسئولية الاجتماعية تجاه الجمهور وقضايا المجتمع، وکذلک نتيجة لغلبة التوظيف السياسي لوسائل الإعلام في العالم العربي، وتراجع استقلاليتها واستقلالية العاملين بها، سواء لصالح أنظمة الحکم أو رجال الأعمال والقوى الاقتصادية المسيطرة على حرکة الاقتصاد في المجتمعات العربية، يضاف إلى ذلک غلبة طابع السطحية على کثير مما يقدم من مضامين وخدمات إعلامية، وضعف مستوى تأهيل الإعلاميين والصحفيين الذين يعملون بهذه الوسائل، وافتقادهم للمقومات والمهارات الضرورية المطلوبة، وليس انتهاء بعدم قدرة صناعة الإعلام على تبني نموذج واضح للتحول نحو دعم مجتمع المعرفة، واقتصاد المعرفة، واستمرار هذه الوسائل والصناعة التي تعمل في سياقها في تبني نفس الممارسات والسياسات التقليدية القديمة، فجاء التطوير الذي شهدته هذه الصناعة تطويرا شکليا على مستوى بنية هذه المؤسسات وتقنيات الإنتاج، وتکنولوجيا المعلومات والاتصال المستخدمة، وليس على مستوى الوظائف والأدوار، والقيمة المضافة: الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما سوف تتناوله هذه الدراسة في إطار إشکاليتها البحثية بمحاولة التعرف على دور صناعة الإعلام في العالم العربي في تعزيز نموذج اقتصاديات المعرفة في المجتمعات العربية، ومدى قدرتها على ممارسة دورها کأحد مصادر القوة الناعمة في هذه المجتمعات.
أهمية الدراسة:  
تستمد هذه الدراسة أهميتها من خلال مجموعة من المنطلقات والاعتبارات التالية:
-            تعد هذه الدراسة من الدراسات الإمبيريقية الأولى"الدراسات غير النظرية" التي تتطرق في موضوعها للعلاقة بين صناعة الإعلام، واقتصاديات صناعة المعرفة في العالم العربي، کما أنها من أوائل الدراسات العربية التي تطرقت في موضوعها لرؤية النخب الإعلامية من الأکاديميين والممارسين لمدى قدرة صناعة الإعلام في العالم العربي على ممارسة وظائفها کأحد أهم مصادر القوة الناعمة في المجتمعات العربية، وهو الجهد العلمي المتواضع الذي يمکن أن يسهم في محاولة سد النقص الواضح في إطار هذا المجال المهم.
-            وتستمد هذه الدراسة أهميتها من کونها قد تجاوزت في حدودها المکانية الإطار المحلي للتطبيق المتصل بموضوعها وعينتها البحثية، لإطار أخر أکثر اتساعا وتعددية وتنوعا، من خلال تناول عناصر الموضوع والظاهرة المدروسة في سياق أربعة مجتمعات عربية، وهو الأمر الذي يسهم في إثراء هذه الدراسة وتعميقها ويحقق قدرا أکبر من شمولية تحليل الظاهرة محل البحث.
-            کما ترتکز هذه الدراسة في تحديد جوانب أهميتها على کونها من أوائل الدراسات التي اهتمت بدراسة صناعة الإعلام من منظور شامل وتکاملي، من خلال دراسة تمثلات عناصر الإشکالية البحثية المدروسة في إطار الأنماط والوسائل الإعلامية المختلفة، التقليدية والمستحدثة منها، والمقارنة بينها، إدراکا من الباحث لطبيعة التوجه العالمي والمحلي نحو تبني فلسفة الدمج بين هذه الوسائل، وإدراکا لأهمية تطبيق هذا المنظور التکاملي في إثراء الدراسة وعمق نتائجها.
-            کذلک تستند هذه الدراسة في أهميتها على أهمية القضايا التي تناولتها، سواء فيما يتعلق بقضية العلاقة بين اقتصاديات صناعة الإعلام واقتصاديات صناعة المعرفة، أو قضية دور صناعة الإعلام کأحد أهم مصادر القوة الناعمة في المجتمعات العربية، حيث تعد هذه القضايا من القضية المهمة المطروحة في ساحة النقاش الأکاديمي والإعلامي في المجتمعات المتقدمة، في الوقت الذي لا تزال فيه تعاني من التجاهل أو عزوف الباحثين عنها في مجتمعاتنا العربية، وهو ما يؤکد على أهمية هذه الدراسة، وضرورة الإنطلاق منها لإجراء سلسلة من الدراسات المتعمقة التي تتناول هذه الظواهر، وکيفية تعظيم دور صناعة الإعلام في تعزيز وجودها.

الكلمات الرئيسية